Tuesday, December 26, 2006

شظايا الروح و أعمدة يثقلها الرماد: إلى أحمد أبوحازم

نجمة بعثت الضوء زمنا
في حلمها الأخضر يتشظى عمودان غير متناسقين من الإخضرار الآخر. تتقارب شظاياهما ثم قسرا تتباعد، لكن أبدا ليس ببواعث التنافر. و يستدير بها الحلم لتتشظى ذاتها ضوءاً أخضر مخلفة وراءها أعمدة
تتراكض كما السخام الباحث عن تحرر مستحيل
(1)
تستقبل صباحات الصيف بكسل ذي شقين لأنك تعلم حتمية أن تفعل ذلك. و أنت تجلس هنا تحت هذه المظلة المقوسة التي كأنما صنعت خصيصا كي لا تقي أحدا شر الصيهود، لا تملك سوى أن تأسى لعدم تمكنك من المشاركة في التظاهرة ضد الحرب. . التظاهرة التي، منذ البارحة، أجمع رفاقك على تنظيمها بعد أن أعدوا لذلك اللافتات و الشعارات. تعلم أنهم صوروا العلم الأميركي و وضعوا عليه خطين قطريين متقاطعين دلالة رفضهم. لا تنسى أنهم طبعوا أوراقا كثيرة بحروف محروقة السواد تقول: لا للحرب
و أنت تجلس هنا تحت هذه المظلة الضيقة المقوسة، التي كأنما صنعت مقاعدها كي لا تمكن أحدا من الجلوس عليها طويلا، تعلم أن التظاهرة فاتتك قهرا. و تعلم أكثر أنك قهرا تؤدي هذا العمل في صباحات الصيف كما في صباحات الشتاء و أماسيه و كما الآن. ما أعجب العادة حين تمسي استنساخا للقهر
(2)
يفكر الآن فقط في صقل حذائه بعد أن تغبر أثناء الخوض في المسيرة التي شارك فيها دون سابق اعتزام. رأى الجمع يمر أمامه. رفعه هتافهم عاليا إلى سموات الشفافة. هتف و هو يقف على حافة الجادة رافعا يده، ثم و هو على قارعة الطريق، و طار معهم باستمطار اللعنات على الاستكبار، و خاض في بقية الأجساد واحدا أصيلا منهم
بعد إنتهاء المسيرة، لم يفكر سوى في أن يسلم حذاءه إلى صابغ أحذية، أي صابغ، كي يرتقه و يلمعه ذكرى لأحداث المسيرة. هل إنتهت المسيرة حقا، أم قُمعت إلى غير ما نهاية؟ إتجه الحشد السائر إلى السفارة الأميركية الكائنة على بعد ميل، لكن الشرطة تدخلت، و تداخلت الأشياء مشتبكة مع بعضها؛ الشعارات، الناس و الشرطة، الملائكة و شياطين ذلك الجحيم. هل قمعت الشرطة التظاهرة، أم قمعت التظاهرة الشرطة؟ النتيجة قتيل و جرحى عديدون، و أبخرة حارقة في حلقه و وجهه. لم يهتم بثيابه التي تشعثت لفرط رغبته في مسح حذائه القديم الموغل في الإهتراء.
هل إختار حذاءه ذاك بمحض الصدفة لينتعله في هذا اليوم الذي إعتزم البحث فيه عن ابنه؟
ابتدأ بمراقبة تظاهرة الصبية في الحي. أصغرهم في السادسة، أو ربما في الخامسة، و أكبرهم ناهز الثالثة عشرة. استقبلهم متفرسا في الوجوه الصغيرة، ثم وقف على جانب الطريق عندما حاذوه، و أخيرا تبعهم من الوراء زمنا. لكن قلبه نبض فقط مع هتافهم المندد بالحرب و لم ينبض بالأبوة. أدرك أن الابن لم يكن هناك معهم برغم ما تناهى إليه من أنه سيكون واحدا منهم. هل كبر ذلك الابن المزعوم لدرجة أن يشارك في التخطيط لتظاهرة مناوئة للحرب مع رفاقه و هو بعد لا يعدو ان يكون في العاشرة؟ من اين له هذه النزعة؟ قطعا، هي ليست منه، أي الأب. ربما ورث ذلك عن الأم، التي هي الآن بين يدي الله، و قد بارحت هذا العالم قبل أن ترى جهارا أكبر نموذجين للديموقراطية و هما يغزوان بلدا مستقلا بدعوى إقامة الديموقراطية فيه و تحرير شعبه. يكاد يجزم أنها لو عاشت لم تكن لتدرك كنه المسألة. و لكن ما هو أكيد أنها ستستنكر الحرب تضامنا مع الابن، و ربما معه ذاته حنينا إلى حب شفيف جمع بينهما ذات أزمنة قزحية. هل سيكون الابن شبيها للأم في الخلقة أيضا، أم سيشبهه هو؟ ذلك لا يهم كثيرا! ما هو مهم أن يجده و يضمه إليه، و يعيشان معا.. لكن أين سيعيشان؟ هو شبه متشرد أو، بتعبير أكثر صراحة، بقايا انسان بعد رجوعه-الهروب- من تلك البلدة القصية حيث إندلع القتال فجأة. لم يكن له من موئل سوى السير على قدميه لثلاثة أيام منتعلا هذا الحذاء عينه الذي أهدته إليه أمل ذات يوم. وقتها طالبته أن يكون ذا مظهر أنيق على الدوام بدءً من الحذاء مرورا بهندامه و إلى تسريحة شعره، و أخرجت من حقيبتها الحذاء هدية بتلك المناسبة
منذ ذلك الحين و لأوقات طويلة كان لا يلبس الحذاء إلا إذا كان رائق المزاج و تنبعث في روحه ذكرى أمل و ضوع السعادات. لذا لبس الحذاء و خرج يتمشى تحت سماء لازوردية. بيد أن دوي الأسلحة و المقذوفات شرع يمحق كل شيئ بدءً بمزاجه، مرورا بروحه و انتهاءً بكل الأشياء ما حوله. تذكر أنها ذات يوم جميل قالت له: إذا ما واجهت مشكلة في تلك البلدة فاركض، اركض بكل قواك. لذا أخذ يركض إلى ما ظن أنه البعيد.. البعيد الذي سيكون خلف السنوات العشر التي قضاها في تلك البلدة و التي وصلها ذات يوم بنية المكوث فيها لشهر متخفيا
(3)
بالأمس القريب عندما ذهبت لإحضار علبة ملمع الأحذية التقيت صبيا في مثل عمرك يسير برفقة رجل هو ،حتما ، أبوه. كانا في نظرك منسجمين كأنما هما أخوين، مع أنك لم تجرب مذاق الأخوة. ذهبت بخيالك تبحث عن ذلك الذي كان أباك. لم تجد له صورة واحدة. مضيت إلى أقرب مكان لتجد فيه زجاجا عاكسا أو ربما مرآة لتتطلع إلى صورتك هناك، فقد ذكرت لك أمك الكبيرة أنك تشبه اباك كثيرا. تلك كانت المناسبة الوحيدة التي تكلمك فيها عنه. أما والدتك فقد حدثتك عنه مرة أو مرتين، و لم تزد خلال حديثها سوى على أنه لم يكن على وفاق مع السلطة و لذا فقد سافر إلى بلدة بعيدة منذ زمن بعيد أيضا. لو أن الموت لم يتخطفها كنت تعلم أنها ستحدثك بما تريد معرفته عن أبيك. هكذا انتهى بك الحال إلى تلميع الأحذية على حافة الموقف الكبير للحافلات تحت مظلة ضيقة لا تصلح مقاعدها للجلوس
(4)
لم يجد صباغا واحدا للأحذية في وسط المدينة. يبدو أن حذاءه الاثير هذا سيظل دون تلميع، و ما جدّ فيه من فتق سيظل ضاحكا هكذا يوما آخر على الأقل. هل بقي للأحذية فقط أن تضحك قهرا بينما منتعلوها أنفسهم يرزحون تحت وطأة أحزان محقت قسرا كل ما هو جميل؟ هل سيكون عدم عثوره على صباغ أحذية نذير سوء بأشياء و أحداث قادمة و بالأخص بحثه عن الابن و حياة جديدة يقتل نفسه ناشدا إياها أيضا؟ هل يمكن له أن يتصور الفصل، القسري طبعا، بين الاثنين؛ بين أن يجد الابن و بين أن يعيش حياة جديدة؟من حوله يزداد تراكض الناس و هرجهم فينبعث من ذهوله و جموح أفكاره. لمحها هناك تلك التي يتراكضون متزاحمين نحوها
إنها الحافلة! فعل مثلهم بلا تفكير. في آخر الأمر وجد نفسه محشورا في الباب مع آخرين بعد أن امتلأت المقاعد عن آخرها منذ زن بعيد كان قد قضاه متفكرا. تمسك منافسوه بالتزاحم على باب الحافلة التي شرع محركها في الهدير. فجأة لمح صباغ أحذية تحت إحدى المظلات. كانت المظلة مقوسة و ذات مقاعد قاسية مرتفعة كثيرا عن الأرض، و كان صباغ الأحذية صغيرا جدا! ربما هو أصغر صابغ أحذية يراه في المدينة. إزدادت نبضات قلبه تسارعا على تسارعها الناجم عن السباق نحو الحافلة. عزم على أن يترجل و يمضي إلى الصباغ الصغير. عندها كانت الحافلة قد تحركت و أخذت منعطفا حادا حتى تستوي هاربة من وسط المدينة المثقل بالفوضى و التراكض. حاول أن يقفز من الباب بيد أن يده انحشرت في جيب أحد مزاحميه على الباب، فهتف به الاخير
أيها اللص
و أمسكوا به، بل بدأ بعضهم في ضربه و توجيه عبارات جارحة، لم يعهدها من قبل، إليه. آلمه الضرب بيد أن العبارات آلمته أكثر، مزقت ما تبقى له من سلام روحي. حاول أن يوضح لهم أن ما حدث كان محض إتفاق، لكنهم كانوا يزدادون قسوة. ثم قام أحدهم من صف المقاعد الأخير و أخذ يسوطه بحزام جلدي قاس بقسوة و غل.بعد أن أشبعوه ضربا إقترح أحدهم التوجه إلى قسم الشرطة، فاتجهت الحافلة إلى هناك. حال وصولهم القسم أرغموه على
الترجل، و صحبه بعضهم نازلا بدافع الفضول
(5)
في الحافلة على المقعد الأخير سأل أحدهم ذاك الذي كان يسوط ذا الحذاء الضاحك بقسوة مستخدما حزامه الجلدي
لم لم تدخل إلى القسم معهم؟ ألم يسرقك الرجل؟
أجاب الآخر بتشف
لا! و لكن سرقني أحدهم قبل يومين في إحدى الحافلات

No comments: