Friday, December 12, 2008

في القلب شعرة بيضاء


و أنت تجلسين في شبه رقاد على المقعد الخاص يضجرك الجلوس و عديد الرجال الذين زحموا المكان يبسمون في أوجه بعضهم و المرايا متحدثين في اللاشيئ بدءا بمشروع القرار الجديد الذي يسحق آمال الملايين من المهاجرين و انتهاءً بحبيباتهم المهاجرات الخائنات. لم يكن أي منهم يظهر إكتراثا لوجودك هناك و أنت تبدين تذمرا واضحا للعيان. مهلا.! الرجل الجالس قبالتك يبتسم ناظرا إليك في سخرية. . كلا، بل وراء نظرته معنى آخر؛ إنه يرامقك في شغف لا يحرص على إخفائه، الآن. تبتسم عيناك الواسعتان إذ تتجاهلين النظر صوب الرجل الأسود لتعبثين بأحد تلك الأجهزة الالكترونية التي لم تفلح سوى في جعل الحياة أكثر تعقيدا. تتكلمين بكلمات غاضبة بلغة لن يفهمها أي من في المكان، عداك.

لكن الرجل الجالس قبالتك ما يزال يبتسم و هو يرد، باقتضاب، على كلمات المرأة الواقفة إلى جواره فتفطن هي إلى أنه كان يرامقك باهتمام. تهمس بدورها:
-إنها ساحرة! أليس كذلك؟

يتسع ابتسام الرجل فينظر إلى المرآة أمامه و كأنما ليتأكد أن ابتسامته ليست مغتصبة، و أن سمته لا يزال بهيا يجذب النساء و يكفي لإغواء الجميلات.

· * * *
·
في المرآة انعكاسات لمرايا أخرى عديدة تحمل أخيلة الرجال و أصدية أحاديثهم التي تزجي الوقت، أيضا. أما أنت فقلبك ينبض بألم لذيذ خفيف. تمعن النظر في رسمك الذي تزعم نساء المدينة أنه لا يشي بعمرك الحقيقي؛ يقلن:
-تبدو في الخامسة و العشرين. لا أصدق أنك أكبر من ذلك!
تضحك في سخرية من دهشتهن، ثم تقول:
-نحن، معشر الأفارقة، لا نأبه للزمن لذا ندحره هكذا.
ثم تلح إحداهن على أن تُعلمك الرقص على أنغام موسيقى كاريبية متسارعة.

بيد أن المرأة الواقفة إلى جوارك، الآن، تبسم في دعة أصيلة و هي تمس رأسك من آن إلى آخر، ثم تنظر إلى المرآة بدورها ماضية في ثرثرتها الشحيحة بلكنتها الأجنبية و ملامحها المتحالفة مع تلك اللكنة. تحدثك عن مستحضر قد يعالج القشرة التي استوطنت شعر رأسك الأجعد الخشن. هاهي تفطن إلى تحديقك في الوجه الصغير القابع قبالتك على مقعد ذي عجلات صغيرة تعلوه مظلة ملونة. تقول:
-كم هي فاتنة، تلك الطفلة! أليس كذلك؟

تبتسم بدورك، و لا تعلق بشيئ إذ أن أفكارك كانت قد جمحت بك- و أنت تحدق في المرآة الصقيلة- إلى عديد الأطفال السمر كما طوفانات من البراءة و بالخصوص في بلادك و الإقليم الذي تتحدر منه. لطالما رغبت أن يكون لديك جيش من الأطفال الخدج لتدحر بهم قسوة العالم و تبعثهم رسلا للحب و الطمأنينة و الحنان. غير أنك منذ رحيلك الهروب و أثناءه ما تفتأ تشكر للعناية الإلهية عدم إنجابك أولئك الأطفال. و تحمد لها أيضا- في ألم و رضا معا- أن حبيبتك التي وافقت ذات يوم على إنجاب الأطفال الخدج قد مضت إلى البعيد، قبل هربك، لتتخذ لها مكانا إلى جوار الشمس تطل عليك منه أيام الصيف الحارق و من خضرة الأشجار الباهية.

ثم هاهي، في هذه البلاد البعيدة، تطالعك وجوه آلاف الأطفال من إقليمك على صفحات الجرائد و المجلات و قنوات التلفزة و متصفح الانترنت لتؤكد أن العالم بأسره يشهد المأساة و لا يأبه لها إلا بالقدر الذي يضمن تحقيق مصالح دنيئة. ما أعجبه من عالم بائس ينشد مصالح رخيصة من كارثة جل ضحاياها من الولدان و النساء الحنونات! ثم ما بال الرجال الذين كان مبلغ حلمهم أن يحلبوا أبقارهم و يحصدوا قناديل الدخن وسط الأغاني الشجية و قد غيبهم الاعتساف و طائر الموت الجبار؟ أليسوا هم ضحايا أيضا للكارثة؟

يتعالى صوت متذمر من الطفلة ذات الملابس التي تشع بالزهاء، فتلتفت إليها و عيناك تفيضان أسى و تبسمان. تتساءل دواخلك: هل ستدحر براءة الأطفال هذا العالم ذات يوم فينصبون راياتهم، التي تحمل قوس قزح أزرق كبير، على عروش الملوك و الرؤساء و البرلمانات المتآمرة؟ هل سيصبح شعارهم "يحيا الحب" تعويذة لبني البشر بعد أن تسقط الفروق بين الناس ثم الحدود بين الشعوب و الأمم؟ حينها فقط سيضمحل المدى ما بين الأرض و السماء و يضحي بإمكان ساكني الأخيرة أن ينزلوا إلى الأرض و يعيشوا التسامح في مملكة الأطفال الأبدية.

تهتف المرأة الواقفة إلى جوارك تقص شعرك:
-هناك شعرة بيضاء على فودك الأيسر!
-هل ثمة من أخريات؟
-كلا! إنها وحيدة.

تذكرها تلك الشعرة منذ ثمانية و عشرين سنة خلت و هي تتفيأ هذا الموضع من رأسك، على الجانب الأيسر. ذات نهار آمن في الوطن، الذي ما عاد آمنا، و عمرك لم يتجاوز الخمس سنوات هتف أبوك و هو يقص شعر رأسك بعناية:
-إنها شعرة بيضاء! ستسافر كثيرا يا ولدي، و ستكون ذا شأن في العالمين.
حفل صوته يومئذ بالحزن لأسفارك، و بالفرح لعلو شأنك المأمول، و لم تدرك وقتها معنى نبوءته. من جهته لا يغفل أبوك النبوءات التي تمس أبناءه. بل هو يحفظ حادثات أيامهم و تواريخ ميلادهم و ساعات ذلك. أما أنت فتحفظ الوداد تعاويذ محبة خالدة لأبيك و لأمك و لإخوتك و الأرض الحنون، و لملايين الأطفال في كل البلاد.

ما يزال قلبك ينبض بالألم اللذيذ فتهب من كرسيك المرتفع لتخترق المرايا التي تفصلك عن البراءة الجالسة قبالتك، بلا ضوضاء. تتهشم إحدى المرايا فتأخذ منها شظية تشك بها صدرك الناحل ثم تشرحه بطوله. تتمادى فتفتح قلبك بالشظية. ترفع الطفلة في حنان ثم تضعها بلسما داخل قلبك. تفكر قليلا قبل أن تغلق قلبك ثم صدرك. تلتفت إلى المرأة التي ترنو إليك فتنقدها أوراقا مالية خضراء عبر الفراغ الذي خلفته المرايا المهشمة. تخرج، من بعد، إلى الشمس الساطعة.

أمامك، و على مقربة، تسير امرأة و طفلة. تتكلم الطفلة:
-يا أمي، أنا لا أشبهك، كما أنني لا أشبه أبي.
من بعد تفكّر و كأنما تبحث عن أوجه شبه مستعصية تقول المرأة:
-لقد أخذت عني شفتيك. أما عن أبيك فقد أخذت الشعر الأسود الأجعد.

يتواصل خطوك الواثق فيما تبتسم للناس في الشارع العريض و تتحسس الشموس التي زحمت جيوبك و السماء. أما قلبك فسيظل ينبض بملايين الأطفال و أقواس قزح زرقاء
.