على اختلاف معاييرهم لما هو جميل أو مبدع بحسب اختلاف خلفياتهم الثقافية،
والتعليمية، والمكانية، والزمانية، والعمرية، وتجاربهم الحياتية، يظل بنو البشر
أينما ضربوا في الأرض ينشدون الجمال والإبداع ويتحرونهما. وقد يصبح ميزان المعايير مختلا عند البعض إلى غاية أن
يضلوا متخذين من الغرائبية والفجاجة عناوين للجمال. فعلى سبيل المثال ثمة أقسام من
الناس تعتبر أن من يرسم الأوشام مبدعا، ومن يثقب الشفاه كذلك، ومن يصطاد السحالي
من بين صخرتين بشعرة من ذيل حمار فنانا، ومن يتفوق في سحل شعبه وإبادة قسم منه
حاكما عادلا، ومن يشتم النساء ـ في مكان مثل سودانيز أُنلاين على سبيل المثال ـ
مبالغا في الظُرف، ومن تُحلي أذنيها بأقراط كبيرة رائعة الجمال، ومن يرشق شخصا آخر
بزوج أحذية دون أن يصيبه بطلا.. إلى آخر القائمة التي حتما ستطول.
من
ناحية ثانية هناك أناس اشتغلوا بممارسة الفنون وشغلوا الناس، منهم مثلا رسامون،
مثّالون، أدباء يكتبون القصة والرواية والشعر والمسرح أو بعضها، موسيقيون، ممثلون،
مغنون، وكل من يمارس أي ضرب آخر من الفنون.. بطبيعة الحال يمكن لهذه اللائحة أن
تطول بحسب انحيازنا وتعريفنا لما يمكن أن نُطلق عليه فنا، وموقفنا من ذلك
"الفن". على سبيل المثال أعتبر رياضيا مارس كرة القدم مثل الفرنسي ذي
الأصول الجزائرية (زين الدين زيدان) ليس فنانا بحسب وإنما عبقريا، وإذن كرة القدم
ماثلة في لائحة الفنون، بحسب ذائقتي. بنفس القدر أطلق الأميركان منذ زمن بعيد على
رياضة الملاكمة اسم (الفن النبيل) وبالتالي فإن أبطالا رياضيين مثل (ماني باكي-
ياو) و(شوقر راي ليونارد) و(محمد علي) هم فنانون في نظر قسم من الأميريكان يعشق
تلك الرياضة.
بيد أن من يجدر بي التطرق إليهم، في هذا
المقام، من لائحة الفنانين أعلاه هم
الأدباء أو بعبارة أكثر دقة هم الكتّاب سواء أكتبوا الشعر، أم الرواية، أو القصة،
أو الأقصوصة، أو الأغنية، أو المسرحية، أو السيناريو، وذلك بإعتبار ممارستي لبعض
ضروب هذه الآداب على نحو خجول أو قُل على سبيل الهواية، وبإعتبارهم – هؤلاء الصبية
المشتغلين بالأدب- مِن أكثر من نقرأ عنهم عديد أوصاف مثل: مبدع، قاص عبقري، أديب
كبير، شاعر مبدع، كاتب فذ، روائي ملهم، أشعر العرب الذين جاءوا إلى الشعر..إلى آخر
اللائحة.
هذه "التوصيفات" قد تنطبق على
بعض هؤلاء "الموصوفين" لو أنها أطلقها ــ هذه الأوصاف – من لا تدمغهم
شبهة تحيز. بمعنى أنه من السهل أن أطلق على صديقي أو ابن مدينتي، أو المنتسب إلى
كل من عشيرتي، قريتي، ديني، جهتي في البلاد، قبيلتي، اقليمي، حزبي، أو دار النشر
التي أملكها أو ما شئت وصفاً مثل مبدع، عبقري، أديب فذ، أديب كبير، كاتب ملهم،
روائي بارز، شاعر نحرير، بينما هو في الواقع كاتب أو أديب فقط على الأقل في هذه
المرحلة من عمره الإبداعي. بطبيعة الحال سوف لن يكف "المتحيزون" على
اختلاف بواعث تحيزهم عن أطلاق هذه الصفات على من يشاءون من الكتّاب، بيد أن ذلك
بأية حال لن يخلق من الأخيرين أولئك العباقرة لأن التمني وحده ليس كافيا. بالتأكيد
لا يمكن اغفال التأثير "المضلل" الذي قد يثيره اطلاق مثل هذه التوصيفات
سيما على عامة الناس ممن لا تتوفر لديهم الدراية و أدوات الاطلاع ومحاولة تقييم
انتاج الكتاب المعنيين تقييما منصفا مجردا.
إننا ككتاب على اختلاف خلفياتنا الثقافية
والمكانية والزمانية واللغوية والعرقية والدينية والسياسية والأيديولوجية في هذا
الشتات الانساني العظيم نساهم جميعا – بدرجات متفاوتة بحسب حجم وقيمة اسهامنا- في
كتابة إرث انساني إبداعي ضخم، متّصل، ووحيد يمكن تسميته "رواية عملاقة"
أو "قصيدة ملحمية" أو ما شئت. ذلك العمل الانساني الضخم يمكن تشبيهه
بـ"ملحفة" ** ضخمة تتكون من عدد لا متناه من القطع تمثل كل منها اسهام
كل منا. إن حجم اسهامنا، ولنقل المكاني، في تلك الملحفة قد تحدده ضخامة وغزارة
انتاجنا نفسه، بيد أن قيمة اسهامنا، ولنقل الزمانية، يحددها التاريخ وحده دون
سواه. أما محاولة المعاصرين لنا اسباغ صفات التعظيم علينا من خلال أعمالنا
الإبداعية أو على أعمالنا نفسها فإنها لا تعدو كونها ضربا من الانحياز الذي سبقت
الإشارة إليه.
لكن الأدهى من كل ذلك أن يأتي كاتب - أو
مجموعة من الكتاب - فرية أن يصف نفسه بأنه مبدع، أو فذ، أو عبقري، أو ملهم مسبغا
على نفسه آيّ التميّز دون حياء في اجتراء على القراء، والنقاد، والغير من الكتاب،
والأدب، والتاريخ نفسه. وقد يسهم انحياز بعض الناس ممن تحركهم بواعث التحيز في
ترسيخ تلك الصورة المتوهمة بعضا من وقت مستفيدين من توفر النوافذ الإعلامية
والمادية والسيطرة على السلطة على سبيل المثال، في ذلك. ربما بعد أن يمضي، أو تفضي
به الحياة إلى طريق الفناء، قد يَثبُت أن ذلك الكاتب ينطبق عليه أحد أو بعض تلك
الأوصاف، وربما قد لا يحدث و أن ينطبق عليه أي منها، ذلك أن حقيقة وجوهر اسهام
الأديب في تلك الملحفة العملاقة هي التي وحدها ستبقى أما قشور وأوهام العظمة
المكذوبة فستذهب كما الزبد.
وثمة أمر آخر يتوجب ملامسته أيضا في هذه
المعمعة وهو أن اسهام كل كاتب في تلك الملحفة ، وبالتالي تقييم ذلك الاسهام، هو
أمر فردي محض لا تمسه فرية أن يكون جماعيا بأي حال إذ أنه سيقال إن فلانا كاتب
بارز أو شاعر فذ وليس إن مجموعة الكتاب الـ"فلتكانيين" مجموعة عبقرية أو
مبدعة لمجرد أنهم جاءوا من السودان، أو خور فطيس، أو جزيرة برمودا، أو كانوا يكتبون
في جريدة الجرائد، أو مواقع مثل سودان فورأُول، أو سودانيز أونلاين.
** quilt