هل سيسومونك إعتسافا أكثر مما لحق بنقودك و علب السجاير التي تخصك؟ لا تسأل نفسك هذا السؤال لأنك تفكر فقط في شيئ واحد. هذا الشيئ لا تجسر على أن تحدث به نفسك بصوت مرتفع لأنك تخشى... لا تدري ما الذي لا تخشى بالضبط. و أنت مستلق هكذا على ظهرك تفترش الطمي الناعم تخشى أن يفسدوا عليك استسلامك لبرد كانون من دون أغطية. تتنازعك رغبة ملحة و قوة غاشمة؛ القوة هي جبروت الإعياء و النوم. أما الرغبة فهي التحديق في وجه القمر الحزين. لم تفلح جحافل كانون و غشاوته في تبديد الضياء الذي يغمر العالم في هذه الليلة و بالخصوص روحك التي تموت توقا إلى حرية مجهولة و القمر
في البدء، تنتصر الرغبة نصرها المؤقت المفجع لتتذكر يومك منذ الصباح الباكر البارد و ساعات التدريب في العتمة غير الأكيدة و سطل الماء النتن –البارد بالطبع- الذي دلق على فلفل رأسك. نعم.. لقد جربت النوم في أنفاق المجاري لكن لم تألف قط شيئا بذات الفظاعة الفاقعة. أوسعك أحدهم ضربا بخرطوم أسود قاس ليعلمك كيف تقف على قدميك "صفا" في الفجر الذي هرب صفاؤه إلى غير ما رجعة منذ أن تفجرت أبواب السعير في قريتك البعيدة ذات يوم بدأ جميلا و انتهى بالرحيل الطويل.. الرحيل-الرعب-المستحيل إلى جهة لم تعلمها بسبب أنك لم تجد متسعا من الوقت لتسأل أو، ببساطة، لأنك صغير جدا، و تعرف فقط القرية و الغابة و حبيبتك الصغيرة و أحلاما نيّئة.. أو لأنه لم يبق هناك من يجيب على بقية أسئلتك العمياء
هناك شيئ أكيد واحد بقي في حياتك بعد النقود و السجلير و الدراجة ذات النفير المموسق؛ هو القمر الحزين المطمئن. تنتظر ليلته تلك من كل شهر لتستحضر احتفاءك به رسولا للسنا و الدهشة و مواعيد الحبيبة التي لم تعد سوى ذكرى للفجيعة الحارقة. بعد أن ولدت النقود البكر السجاير تمخضت الأخيرة عن نقود أكثر ولدت بدورها تلك الدراجة التي أصبحت سمتك المميزة على الطرف البعيد من ناصية الجادة الشهيرة و تخومها. كم تستحلي ركوبها معتمرا قبعة حمراء تمشيا مع الجو العام و إتقاء لشمس ربما ستحرقك في الصيف، و تتنكب حقيبتك السوداء التي في أحشائها يزدحم السجاير و قميص مزركش. أما النقود فمستقرها أحد جيوب بنطالك حائل اللون. القمر الذي علموك أنه سلفك العظيم تعتقد أنه منحك كل هذا لتجابه قسوة الإعتياش في العاصمة. حتى إختيارك للمكان تعتقد أنه إختيار القمر. منه ترقب السابلة و المساءات الكالحة و حبيبة محتملة الإنبثاق
في هذا المكان أيضا جاءت الحافلة مسرعة ضد حركة السير و خارج جادّة الأسفلت الأسود. كنت مشغولا بتسليم زبون سيجارة واحدة لذا لم تلحظ حتى طريقة ركوبهم المنذرة بالظلام. لمّا توقفت الحافلة كانوا قد إنقضّوا أولا على السجاير التي كانت موضوعة أمامك على كرتونة فارغة تستعير هيئة منضدة. شرعت تركض مستدعيا قواك المبددة. ركضوا خلفك كأنه سباق للجائزة الكبرى. كنت أنت المتسابق و الجائزة نفسها. استنجدت، في سرك، بالأسلاف و السلف العظيم خاصة. لكنهم صموا آذانهم عنك فيما بدا. في منعطف ما تعثرت و تناثرت أحلامك معفرة بحمرة الأرض البلقع. أنهضوك ثم عادوا بك إلى نقطة السجاير. أشعل كل واحد منهم سيجارة، و أخذوا ما بجيوب البنطال حائل اللون من نقود. في الحافلة قهقه الكثيرون لمرآك منذ أن بدأت تعدو و حتى لحظة إجبارك على الصعود. و على جادة الشارع هز بعضهم الرؤوس دهشة و دون تعاطف
بعد وصولك إلى أرض كنت تسمع عنها و تخشى لحظة ارتيادها، أخذوا يسألونك و يكتبون على كراسة متسخة
ما اسمك
جبرائيل مشار
كم عمرك
ثمانية و ستون و مئة قمرا
بل تسع عشرة سنة
تعلم أن ما كتبوه ليس عمرك، لكنك رأيت من يصغرك سنا بيد أنهم حمّلوه عشرين عاما. ثم بدأ اعتساف التدريب. بدأوا رأسا بحمل السلاح. كم كنت ستبدو سعيدا بتلك البندقية الآلية لو لم يتم ذلك في هكذا ظروف. أعقبت ذلك الأناشيد الحماسية بلهجة قبيلتك. لم تكن متحمسا على الإطلاق. فقط تتذكر السجاير و النقود المستلبة و الدراجة التي ربما ستضيع. لحرصك أخذت تركنها، في الأيام الأخيرة، عند زاوية يفضلها بائع جائل يبيع، هو الآخر، السجاير و ربما الحشيش. كأنك كنت تعلم أنهم في ذلك اليوم بالذات سيأتون لأخذك فأوصيت بائع السجاير و الحشيش أن يسلمها لبائع الثلج الذي لا يبيع، هذا الشتاء، شيئا سوى الشتائم و النكات البذيئة
جبروت القوة يشرع في دك حصون الرغبة و يسري الخدر في دماغك لا لشيئ سوى لأنه الجزء الوحيد الحر الذي تبقى منك. لا تحاول المقاومة لأن غمامة شتوية أخذت في حجب سلفك القمر، أو ربما هو خسوف أنت لم تسمع تنبؤات الفلكيين به. تحلم ما بين الصحو و اللاصحو بأنك عدت إلى ناصية الجادة الشهيرة. لا تجرؤ على الحلم بالرجوع إلى القرية لأنك لا تهدر أحلامك، هكذا، جزافا. لتعد، إذن، إلى حلم الناصية. هناك سيسألك الكثيرون – ربما هازئين أو بدافع الفضول- عمّا جرى. سوف لن تحدثهم عن قذارات الغرفة التي حبسوك فيها سحابة النهار، و الآخرين الذين قضوا فيها يومين قبل مجيئك. لن تخبرهم أيضا عن قرصات البعوض الرهيب في عز الشتاء و الآلام المبرحة في ساقك جراء الضرب الذي تلقيته. و الأهم أنك لن تخبرهم عن أشياء أخرى أكثر فظاعة و بالذات ما سمعته عن اطلاق سراحك إذا دفع أهلك ما تسميه أنت فدية. نعم.. نصف أوقية ذهبا أو فلتقل مئة دولار أميركي.. آه كم هو غريب هذا الوطن.. بالأمس تغادر قريتك الوادع هربا من قدر الحرب، إلى قدر الستعداد القسري للحرب اليوم
تتسابق الأحلام إلى نومك لأن سلفك القمر يهيمن الآن على قبة السماء بعبقرية. تحلم بحببتك الصغيرة و كيف تعلمت العد حتى تحصي، دون معين، الأبقار التي ستدفعها مهرا لها. تتذكر كيف أن شوكة ضخمة طعنتك و استقرت يوما بطوله في باطن قدمك، و كيف أن جدك العجوز ناجى سلفك القمر كي يهبك طول العمر و يذهب عنك كيد الأشواك بدء بتلك الشوكة. في المساء، لوحدها خرجت الشوكة و القمر مكتمل الاستدارة كما هذه الليلة. أخذ أهل القرية – عشيرتك- يسردون تلك الحادثة إلى أن عصفت الحرب بهم و بالقرية. لكن الإظلام المفاجئ هو الذي يحجب الأحلام عنك الآن. لا بد أن شيئا أغضب القمر فتوارى. تستيقظ و تفتح عينيك. تجدهم يقفون بينك و بين القمر. إنهم السبعة الذين دخنوا سجايرك دون مقابل